الاثنين، 17 أكتوبر 2011

الديمقراطية من 1938 حتى الآن



… وكان “تمييل العيون” يتم كالتالي: يُحمى السيخ على النار، يصبح لونه أحمر، تمتد اليد وترفعه، تقترب ببطء من عيني الضحية، يلامس السيخ العين الأولى، تنطلق الصرخة أو تختنق في الصدر، يُقرّب السيخ من العين الثانية. الجميع يحدقون بوجوم، وبتلذذ ربما، ويخرج إلى العالم رجل تحترق عيناه بنيران ظلام لن يزول.
هذا الاحتفال كان يحدث عندنا من ضمن قانون الصراع على السلطة، وكانت له طقوس يعرفها المسنون الذين امتد بهم العمر ليخبرونا به، بل وما زال بعض الضحايا يتوكأ على جدران الحياة ينتظر الموت الذي عرف طعمه منذ فترة بعيدة.
ولم يكن تمييل العيون وحده ما عرفته هذه الأرض من تاريخ تلك الحقبة المظلمة، فالنخاسة كانت أمراً طبيعياً، وسرقة الأطفال وبيعهم بطولة يومية، واللصوصية باسم الغزو رجولة وفخراً… وكانت الخصال العربية تندثر، والفضائل الإسلامية تنطوي وتزول، وكان الاستعمار البريطاني، يحقق، مع كل جريمة ترتكب، نصراً يساعده على البقاء سيداً على مجموعة تؤدي له فروض الطاعة والولاء.
وتلك كانت بعضاً فقط من الثمار السياسية والاجتماعية لاستعمار استقر فوق أرضنا150 سنة، لم يوفر وسيلة خلالها لتغذية كل أنواع الصراعات على السلطة، والصراعات في ما بين القبائل، ليكون هو الحكَم يلجأ إليه الجميع لحل خلافاتكان هو صانعها.
يهددون الخروصي بالقتل ليحكم
ولم تكن الأمور دائماً في مثل هذا السواد، فمن أعماق تلك الظلمات كان شعاع من الضوء، يحمل من الإسلام قبساَ ومن تراث العروبة وهجاً، يخرج ليؤكد أن الاستعمار، مهما بلغ من القوة والدهاء، سوف يبقى عاجزاً عن القضاء على تراث تتناقلهالنفوس، ويتوارثه الأبناء عن الآباء، ويبقى في صدورهم، ليعبر عن نفسه في أكثر من موقف تاريخي، نكتشف معه أن من الأجداد من لم يلبس جلود الوحوش، بل حاول أن يدرج على سلم التحضر، وإقامة مجتمع يستمد أخلاقه من قيم العروبة والإسلام لا من قيم الاستعمار، وتتحقق فيه العدالة.
وفي هذا الصدد برزت مواقف سجلها التاريخ لرجال أدركوا ثقل المسؤولية في موقع القيادة، وتحدثنا الأسفار عن الشيخ سالم بن راشد الخروصي، أحد الأئمة في تاريخ في تاريخ عمان، وكيفية مبايعته، فتقول: “فلما كانت الساعة الثانية عشرة من يوم الاثنين الثاني عشر من شهر جمادى الثانية قال لهم نور الدين اختاروا زعيماً تقدمونه للمسلمين أميناً على حمل الأمانة والدين يحمل الناس على احترام الشريعة المحمدية فوقع نظر الجميع إنا نرى ذلك الشخص وأشاروا إلى الشيخ سالم بن راشد الخروصي فكلّمه فأبى وامتنع فألح عليه العلماء والأمراء والأعيان فأجابهم إني ما خرجت لتبايعوني بل لأبايع من تبايعونه ولست أطيق لمرامكم حملاً ولم أكن له أهلاً، فأبوا عليه إلا القبول وأبى إلا الامتناع، ورووا له ما جاء في المأثور عنالسلف الصالح من جواز قتل الممتنع من قبول الإمامة إذا وقع عليه اختيار المسلمين، فلما أعياهم أمرهم نور الدين بحمله وتقريبه إليه وكان قد قعد في أخريات الناس هضماً للنفس، فحمل قسراً ثم تعلل بأمور وشرط شروطاً فأجابه نور الدين: إنّا لا نقبل هذه الشروط منك فإن أبيت قتلناك، إذ بامتناعك متى وقع عليك اختيار المسلمين تتفرق الكلمة ويخل النظام وتتعطل الحدود، وأمر نور الدين تلميذه الكبير أبا زيد بقتله متى أصر على الامتناع، فسل حسامه وصح عند الحاضرين إنه قاتله لا محالة، فسألهم إن قتلتموني هل أنا عندكم في الولاية فصرخ الجمهور “لا” وملؤوا بها أفواههم فعقدوا عليه البيعة غضباً والدموع على وجهه…” .
ومن المواقف المضيئة هنا في دبي، يسجل التاريخ موقفاً غنياً بالعبر، ففي سنة 1929، وقع خلاف بين الشيخ سعيد بن مكتوم رحمه الله وبين بعض أفراد العائلة ومعهم مجموعة من تجار دبي، وقد بلغ الخلاف درجة دفعت الشيخ سعيد إلىالتهديد “بالتنازل” عن الحكم!.
مجلس الـ 15 في دبي
ولم تقتصر الأمور على الظواهر الفردية، بل تعدتها إلى المؤسسات، ففي سنة 1938، وبالتحديد في 20 أكتوبر- تشرين أول، وكامتداد لمجالس القبائل القديمة يعلن عن قيام مجلس في دبي، برئاسة الشيخ سعيد بن مكتوم. يضم المجلس 15 عضواً مختارين من وجهاء القوم في دبي، ومهمات ذلك المجلس كانت أكثر تعقيداً من مهمات المجالس البدائية التي عرفتها القبائل، فأي قرار يتعلق بشؤون دبي يجب أن يخرج ممهوراً بموافقة المجلس. أكثر من هذا، إن دخل وإنفاق الإمارة يجب أن يجمع وينفق باسمها بعد موافقة المجلس، وحدد بأن يذهب إلى الحاكم ثُمن (أي واحد من ثمانية) دخل الإمارة، بينما تخصص السبعة أثمان الباقية للإنفاق على المدينة.
وقد كلف الشيخ سعيد بن مكتوم ابن عمه الشيخ مانع بن راشد المكتوم برئاسة المجلس، وقام المجلس بإجراءات إصلاحية مهمة على الصعيد التجاري والسياسي والاجتماعي، ومن ضمن هذه الإجراءات الإصلاحية تعيين أفراد للإشراف على الجمارك ووضع قوائم بأسماء العاملين ومرتباتهم ونظام عملهم، بل وحتى حددت أسماء الحمالين. وفرضت ضريبة موحدة على البضائع المستوردة، كما عُيّن مجلس تجاري للإشراف عليها.
وعلى صعيد الأمن، عين المجلس حراساً لمداخل الصحراء وفي الأسواق. أما على صعيد التربية والتعليم، فقد بدأت، في تلك الفترة، ثلاث مدارس في العمل كما يشير خطاب الشيخ مانع بن راشد للشيخ سعيد بن مكتوم، ومما جاء فيه:
“إن بعض الأعمال التي قرر فيها المجلس قد ابتدأ فيها العمل، هي كما عرفناكم سابقاً فتح المدرسة الأحمدية قد عين لها ثلاث معلمين مع خدم اثنين، ومن حال فتوحها للتعليم بلغ تلامذتها عدد مئتين تقريباً، وكذلك فتحت مدرسة السعادة وعين لها ثلاث معلمين، وقد بلغ التلاميذ بها 60، والأهالي مقبلون برغبة زايدة للتعليم، وبعد يومين أو ثلاثة سوف نفتح مدرسة الفلاح في بر دبي من الغرب… وسوف في الأثناء نرسل لكم منهج التعليم”.
إذن، فقد كانت مهمات ذلك المجلس في عام 1938، هي تحديد دخل الإمارة ووجوه صرفه وحصة الحاكم من هذا الدخل، وافتتاح المدارس وحتى مشاركة الحاكم في مناقشة منهج التعليم… وكانت تلك هي إحدى الفترات المضيئة في حياة دبي، وهي لم تكن غريبة عن المنطقة، بل كانت في تفاصيلها الصغيرة تنبع من تلك الأخلاق التي تكرس عاداتنا الحميدة وتقاليد ديننا الحنيف.
“الحزب الشعبي”
ولم يكن في هذه الإصلاحات التي وجدت صدى حسناً في نفوس الأهالي ما يبعث السرور في نفس المعتمد البريطاني الذي رأى فيها خطوات لا بد وأن تستمر وتتوسع، مما يهدد المصالح العليا لصاحبة الجلالة. ولعلنا نلمح بداية هذا الوعي لما يجري في التقارير البريطانية التي كانت تشير في بداية العشرينات إلى “آل أبو فلاسه” بأنهم “أولاد العم المزعجون” فتغيرت العبارة، بحيث صارت تصفهم ب”الحزب الشعبي” خلال عامي38-1939 وفي هذا الوصف ما يكشف عن ضيق من وجود حزب شعبي، قد يسحب السلطة من تحت أقدامهم ذات يوم، حتى نجح الجميع في تجاوز خلافاتهم، وقد كانوا يسيرون بالفعل على هذا الطريق فالشيخ مانع بن راشد لم ينقطع يوماً عن تزويد الشيخ سعيد بن مكتوم بوقائع الجلسات وجدول الأعمال وقرارات المجلس أولاً بأول… وما أرعب الإنكليز فعلاً هو أن عبارات واصطلاحات جديدة بدأت تطرق مسامعهم، عبر رسائل مانع من نوع “الوجبات الوطنية”… وهو ما أدى في ما بعد إلى إثارة جدل حول ضرورة أن تتماشىالاصلاحات والتغيير مع “الشريعة”، وأن المجلس لا يأخذ ذلك في عين الاعتبار.
ومع اتساع أعمال مجلس الـ15، وجد أن الأموال التي في حوزته لا تسعفه في تنفيذ كل المشاريع الكبيرة التي كان يطمح في إقامتها، كتوسيع الشوارع مثلاً، فطلب تحويل جزء من المال العائد من امتيازات النفط وتسهيلات الطيران… وعندئذ اكتشفت السلطات البريطانية أن هذا الموضوع سوف يفتح الباب أمام المجلس للحديث في امتيازات النفط وتسهيلات الطيران نفسها، وهو الأمر المحظور النقاش حوله أو الخوض في تفاصيله لأنه يتعرض لمصالح بريطانيا العليا في الصميم. ومن هنا بدأالتحضير لضرب المجلس عبر”الصراع المحلي” وإنهاء سلطاته، وبخاصة بعد حل المجلس المماثل في الكويت ومحاولات التحرك الشعبية التي بدأت في البحرين. ونجح ما أراده الإنكليز فأغلق المجلس في 29مارس- آذار1939، وما زالت المدرسة الأحمدية قائمة حتى اليوم في ديره رمزاً لواحد من الإنجازات العظيمة في ذلك الوقت، والتي حققها المجلس. وبعد حل ذلك المجلس توالت في دبي كما في باقي الإمارات مجالس معدومة الصلاحية، إن من حيث التشريع أو التنفيذ، لم يتجاوز دورها الشكلي مناقشة بعض الأمور المتعلقة بأعمال البلديات.
لقد وعى الاستعمار الإنكليزي درسه جيداً، ولم يعد يترك لمثل مجلس الـ15 أن يقوم.
التجربة الحديثة
ذلك كان جانباً من التجربة الديمقراطية المتقدمة نسبياً. أما في السنوات القليلة الماضية، فقد شهدت أوائل السبعينات ومع قيام الاتحاد تجربة أعلن عنها الشيخ زايد بن سلطان في بيان إلى الشعب، أشار فيه إلى صدور قانون المجلس الاستشاري الوطني في أبو ظبي الذي يهدف كما ورد في البيان “إلى مشاركة أهل البلاد وأعيانها ومساعدتنا في إدارة البلاد وتقرير سيادتها” وقد حدد أعضاء المجلس بخمسين عضواً، يختارهم الحاكم “من أعيان البلاد ومن ذوي الرأي والمكانة فيها، وممن أسدوا للبلاد خدمات مرموقة من مواطني أبو ظبي ومواطني إمارات الخليج العربية الأصليين”.
وهذا المجلس شبيه من حيث الصلاحيات بالمجلس الوطني الاتحادي فهو “مجلس استشاري” يصدر توصيات للحاكم له أن يأخذ بها أو يهملها، وهو ليس سلطة تشريعية بالمعنى البرلماني المعروف. ودستور الدولة المؤقت لم يعترف للمجلس الوطني الاتحادي سوى بحقه في طرح موضوع عام للمناقشة والتعبير عن توصياته وإبداء رغباته للحكومة “المادة92″ إلى جانب توجيه الأسئلة إلى الوزراء للاستفسار عن الأمور الداخلة في اختصاصاتهم “الماده93″ وهذا، كما هو واضح، لا يتعدى تبادل الرأي بين المجلسين وليس رقابة مؤثرة في سير عمل السلطة التنفيذية.
من هذا جاز القول إنه في غياب الديمقراطية يصبح الحديث عن الحقوق والحريات مفرغاً من كل معنى، ولا يعدو ادعاءات وتصريحات “للاستهلاك الخارجي”. ولا ضمانات لهذه الحقوق وتلك الحريات إلا بالديمقراطية النيابية بكامل سلطاتها وأن تأتي وليدة الانتخاب المباشر.
والحديث عن هذه الديمقراطية والبرلمانية، إن كان يكتسب مفردات معاصرة، فإن مضمونه يمتد عميقاً في تاريخنا، والصرخة الشهيرة لذلك الأعرابي في وجه الخليفة عمر بن الخطاب: “والله لو رأينا فيك اعوجاجاً لقومناه بسيوفنا” مازالت أصداؤها تتردد في بوادينا، ومثلها جواب عمر: “الحمد لله الذي جعل في هذه الأمة من يقوم عمر بسيفه”. وليس هناك من لا يحفظ عبارة أبي بكر الصديق عن ظهر قلب “يا أيها الناس إني قد وليت عليكم ولست بخيركم، فإن رأيتموني على حق فأعينوني، وإن رأيتموني على باطل فسددوني، أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإن عصيت الله فلا طاعة لي عليكم”.
وهذه العبارات التي قيلت قبل حوالى 14 قرناً هي أكثر دلالة بآلاف المرات، من نص الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، حيث ورد في البند الأول من المادة21: “إن لكل فرد الحق في الاشتراك في إدارة الشؤون العامة لبلاده إما مباشرة وإما بواسطة ممثلين يختارون اختياراً حراً”، ويضيف البند الثالث من المادة نفسها: “إن إرادة الشعب هي مصدر سلطة الحكومة، ويعبر عن هذه الإرادة بانتخابات نزيهة دورية تجري على أساس الاقتراع السري وعلى قدم المساواة بين الجميع أو حسب أي إجراء مماثل يضمن حرية التصويت”.
“التمييل” يتجاوز العيون
إن “تمييل العين” هو جانب من التقاليد الدخيلة على هذه البقعة من الأرض، وهي تقاليد ما زالت مستمرة، ولكن بتقنية أرفع، وبمهارة أكبر، لا تطال العين وحدها بل تمتد إلى باقي الحواس وحتى نفقد الحس بالاتجاه… إن السيخ وسيلة بدائية،تم استبدالها بوسائل أرقى، وهي لا تلامس العين دفعة واحدة، بل تكوي منابع البصر والرؤية على دفعات، وفي طموحها أن نفقد البصر دون أن ندري، ودون أن نتألم.
نحن ما زلنا نتألم، والألم هنا دليل صحة و عافية، وهي صحة لا نستمدها من فيتامينات الغرب بقدر ما نستمدها من رحيق ديننا القويم لأن الديمقراطية، كما هو معروف، هي الحد الأدنى من حقوق المواطن في الإسلام.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق