الاثنين، 17 أكتوبر 2011

ولكن الغد أجمل



أفاق خلفان في صبيحة أحد الأيام، وكان الفصل ربيعاً، بردت نسماته، وأشرقت شمسه فمسح عينيه من بقايا النوم، قبّل أطفاله، وأعد قهوة له ولزوجته التي انصرفت إلى كي ثوبه. ومع الرشفة الأخيرة شعر أنه صار في مزاج قادر أن يستمع فيه إلى الراديو، ومن دون أن يحرك الإبرة، أدار المفتاح، فانطلق صوت المذيع خشناً ورصيناً، ولم يكن هناك أمل في تغيير المحطة، لأن الصوت نفسه سوف يسمعه على جميع الموجات المحلية. فلا “هنا مربح” ولا “هنا غنتوت” بل “صوت الإمارات العربيةالمتحدة”. لم يكن الصوت بنعومة ودلال الأصوات التي كان يسمعها في الماضي، إلا أن نبراته لا تخلو من الدفء وهو يقرأ قائمة بأسعار المواد الغذائية المدعمة.
خرج خلفان متوجهاً إلى مركز عمله في سيارته الصغيرة، ومع أنه يسلك كل يوم الطريق نفسه، فإن الملل لم يدب إليه ومازال كعادته يلاحظ كل شيء حوله، ويمتّع نظره بكل ما يراه، وفي بعض الأحيان يتحسّر قليلاً وهو يرى رجال شرطة المرور في المدن التي يمر عليها بلباس موحد، مما أفقده مادة للتهكم طالما استعملها.
يصل صاحبنا إلى مقر عمله قبل الدوام بقليل، فيأخذ جريدته التي تعود قراءتها منذ سنوات، فإذا على صفحتها الأولى صورة لجيش البلاد يقوم بالتدريب على سلاح المدرعات، وهي المدرعات نفسها التي سبق للدولة أن اعتمدتها كسلاح موحد في كل مناطقها، وتذكر خلفان صورة قديمة عن مدرعات كانت تظهر مع الجيش وهي تختلف من مدينة لأخرى، وطرد الصورة من رأسه بسرعة، ليقرأ على الصفحة الأولى أيضاً خبراً عن جلسة عقدها مجلس الأمة قبل يوم، فأمعن النظر باحثاً عن ممثله الذي شارك مع زوجته في انتخابه العام الماضي، فوجده على عادته يكاد يغفو في مقعده، ولم يستغرب خلفان المشهد، ففي المرة الأولى التي شاهد فيها صورة نائبه وهو يكاد يغفو، شعر بأنه خُدع، وعرف أن كل ما كان يقوله هذا النائب عن المشاريع التي سوف يطرحها لتحسين المنطقة، كانت كلمات للاستهلاك، كما اكتشف أن كل عمل هذا النائب هو أن يرفع يده مع الرافعين أو يخفضها مع الخافضين وبدون أن يوسّع كثيراً من فتحة عينيه، كي لا تبهره أضواء المجلس.
وجد خلفان قراره: لن أنتخبه مرة ثانية، وفرح لهذا الحسم، فجاره في المكتب، وكان ينتخب نائباً منافساً، لم يهدأ أبداً في تذكيره يومياً بأنه لم يستمع إلى النصيحة، فينتخب النائب الثاني الذي كان في طليعة الموقّعين على سحب الثقة منالحكومة السابقة، لأنها كادت توافق على مشاريع تغرق البلاد بالأيدي العاملة الوافدة، ومن دون جدوى… وقال خلفان في نفسه: لا بأس إن أخطأت ولكنني تعلمت.
قلّب الصفحات بين يديه، فاسترعى انتباهه في الصفحة السابعة عشرة إحصائية وضعت بخط صغير، وفي زاوية الصفحة، يقول عنوانها: انخفاض نسبة الوفيات بين الأطفال الرضع إلى 7 بالألف من أصل مجموع الوفيات. ولم يستطع خلفان أن يقاوم إغراء القراءة طالما أن الحديث عن الأطفال، فبدأ بالتفاصيل. كانت الإحصائية تتطرق أولاً إلى زيادة عدد المواطنينبالولادة خلال العام، فإذا هي 5 بالمئة، بزيادة 1.5 بالمئة عن العام السابق، وابتسم أمام هذه الزيارة، فالخصوبة قد عمت كل شيء من الأرض إلى الإنسان. أضافت الإحصائية أن عدد المجنّسين لم يتجاوز الخمسين هذا العام، ومعظمهم من الأطباء والمهندسين الزراعيين وأساتذة الجامعات، إلى أن وصلت الإحصائية لتقول إن الوفيات في صفوف الرضع قد انخفضت عن العام السابق، فصارت 7 بالألف فقط من مجموع الوفيات. وهنأت الصحيفة المسؤولين بعد أن ذكرت بأنه قد مر زمن على الدولة كانت نسبة الوفيات بين هؤلاء الأطفال، كما أثبتت الإحصائيات، هي 30 بالألف.
وحمد خلفان الله وشكره على هذه النعمة، طارداً من خياله سؤالاً كاد يفسد عليه صباحه: كيف كان باستطاعة مسؤولي الصحة في ذلك الزمن البعيد أن يقرؤوا هذه النسبة من الوفيات بين الأطفال… وأن يناموا؟.
وقرع الباب في فألقى خلفان بالصحيفة جانباً، ونظر إلى ساعته: لقد بلغت الثامنة إذن، وهاهو يوم من العمل يبدأ.
دخل “المراسل” وهو يحمل بيده مجموعة معاملات، وضعها على الطاولة فألقى خلفان نظرة سريعة، لقد كانت تتعلق بتوزيع فائض العائدات على ما يزيد عن 20 ألف زارع دفعة واحدة، وهو قرار كان قد أثار الكثير من النقاش في مجلس الأمة وبينصفوف الوزراء، غير أن رئيس المجلس كان واضحاً عندما قال إن الدولة قد حققت دخلاً إضافياً يزيد عن مليار درهم من المحصول الزراعي في حقولها ومليار آخر من تصدير نتاجها من البتروكيميائيات ومشتقات النفط، وهذه الفوائد لا بد أن تشارك بها المواطنين، خاصة أولئك الذين يستنبتون من الصحراء حبوباً وخضاراً، وقد استجابت الحكومة، وحولت القرار بعد تصديقه من رئيس البلاد، إلى المصرف المركزي الذي تصب في خزائنه دخول الدولة كلها، ومن هذه الخزائن يعود المال ليخرج، وبأرقام محسوبة وفق خطة للتنمية، ليتوزع على أنحاء البلاد كلها.
وهنا تذكر خلفان أن نائب جاره، كان قد حذر من الموافقة على هذا القرار، وطالب أن يتم تخفيض جديد لإنتاج النفط، بحيث لا تزيد الكمية المنتجة عن حاجة السوق المحلية استهلاكاً وتصنيعاً بالإضافة إلى الكميات التي تصدر إلى العالم الثالث بموجب اتفاقيات المقايضة بالمواد الأولية. ولكن اقتراح نائب الجار قد سقط، بفارق ضئيل بالأصوات.
راجع خلفان الأوراق وحملها إلى غرفة المدير الذي استقبله مرحباً، ومتسلماً منه أوراقه، وبابتسامة أوسع من المعتاد، قال المدير، وهو يسلمه رزمة من الأوراق: إنها مشروع ميزانية العام المقبل، هل لك أن تراجعها قبل أن تعيدها لأقدمها إلى مجلس الوزراء في اجتماعه الدوري المقبل؟.
بادل خلفان مديره ابتسامته وحمل الأوراق وهو يلقي بنظرة إلى تاريخ اليوم، فاكتشف أن الميزانية أنجزت في 13 مارس، أقل بيومين من العام الماضي… وفرح لاكتشافه.
عاد خلفان لمتابعة عمله، ليقاطعه تلفون من زوجته، تسأله بعد الاعتذار عن معنى بيت من الشعر قرأته في كتاب قديم. أخفى خلفان دهشته، فكيف لا تعرف وهي الأديبة الشاعرة، وواصلت: “الغافري لو طبت له ما طاب… ما طابت النخره من المسحاب” وصمتت تنتظر الجواب. أما هو فكان يصارع سحابة من كآبة قاتمة أثارها هذا الشعر القديم في نفسه، ماذا يقول لها عن “الغافري” و”الهناوي”؟.
عاد صوتها يعتذر وتطلب تأجيل الموضوع لوقت آخر. ما أطيب هذه المرأة الغافرية.
4/4/1979

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق