الكرسي


الأسماء مخادعة، إننا نطلقها على فرد وعندما ننطق بها نكتشف أن الاسم جماعة وليس فرداً، وأنه ليس اسماً لشخص بل لمرحلة من التاريخ. نكتشف أيضاً أنه ما زال يصنع المستقبل لأن مياه التاريخ لم تكف يوماً عن الجريان.
الاسم ليس ماضياً. هو موجة تنتهي عند الشاطئ دائما، ولكنها دائما تعود، وهي لا تعود فرادى بل جماعات تتواصل، ولا أحد يستطيع أن يفصل بين موجة ورفيقتها فكل موجة تحمل ذاكرة المحيط، وهذا سر قوتها واستمرارها.
غانم عبيد غباش هو اسم وعنوان مرحلة. حمل هموم «الأزمنة العربية» مجلة وواقعا، على مدى عقد من الزمن، وعندما رحل في الثالث من مارس العام 1989 صار موجة مازال هديرها يدوي على سواحل هذا الخليج الذي أحبه ومازال…نقرأ معا في ذكرى رحيله مقالاً كتبه في الأزمنة العربية يوم 17/10/1979، أي قبل حوالي ربع قرن، نستعيد به الاسم والرجل والمرحلة.
… وحتى لو كانوا من المخابرات. التجربة جرت في أميركا الثلاثينيات: أُدخل 5 محكومين بالإعدام إلى غرفة الكرسيالكهربائي. فجلس الأول على الكرسي، بينما الأربعة الباقون كانوا يراقبونه، ثم وصل التيار الكهربائي بالكرسي، فارتعش جسد المحكوم بالإعدام، فقد كسرت الصدمة عموده الفقري، وجاء دور الثاني، العملية تكررت، وحمل جسده مكسور الظهر أمام أعين الثلاثة الباقين، ثم وقعت المفاجأة مع الثالث، فهذا ما ان دخل غرفة الموت واستقر فوق الكرسي، ولمح يد الجلاد تتجه نحو الزر الكهربائي لوصل التيار حتى تصلب جسده ثم ارتعش وهوى بعد أن تحطم عموده الفقري قبل وصل التيار، والتجربة نفسها حدثت مع الخامس.
اثنان من خمسة حطم الخوف في كل منهما عموده الفقري. والعمود الفقري يتحمل كما يقول العلماء 240 كلغ قبل أنينقصف، ولكن «الوهم» قصفه.
الشعوب العربية عموما هي من نوع هذين المحكومين بوهم الخوف. والحكم ليس من الضروري ان يكون بالإعدام دائما،فأحيانا الشلل يكفي. وهذا الشلل ليس شللا جسديا دائما، انه شلل فكري ونفسي واجتماعي، وهذا هو الأخطر.
المسرح والجامعة
ومن التعميم العربي إلى التخصيص المحلي.لا يجهل احد أهمية المسرح كمرآة صادقة تنعكس عليها هموم الناس ومشاكلهم، ولكي يكون المسرح معبرا بأمانة عن تلك الهموم، فان إدارته مطالبة بالبحث عن نصوص تسلط الضوء على تلك المشاكلوالمساهمة في تحليلها وكشف الثغرات المطلوب ردمها.
وقد عرضت مؤخرا على إدارة احد المسارح في الدولة نصوص تحمل تلك المواصفات، فاعتذرت عن قبولها بحجة الخوف منإغضاب المسئولين. والسؤال هو: كيف ولماذا تحول هؤلاء الشباب إلى إدارة للرقابة أكثر تشددا بكثير من إدارة الرقابة بوزارة الإعلام؟ ما هو مصدر عقدة الخوف هذه؟ هناك بعض قوانين توضح الحدود التي يجب الوقوف عندها والأمور التي لا يجوز التعرض لها، ولكن يبدو أنه نتيجة لعقدة الخوف في داخلهم، ومغالاة في توخي السلامة، وقف هؤلاء الشباب في مواقع بعيدة جدا عن الحدود المرسومة. فهو إذاً خوف لا دخل للحكومة فيه.
ومن المؤكد أن عقدة الخوف هذه ليست حكما طارئا، بقدر ما هي ترسبات قديمة ذات جذور تمتد أعمق مما يتصور البعض،ولا بد لخلق الجيل الجديد المعول عليه في بناء هذا الوطن من انتشاله من براثن الخوف والقلق، ونفض تلك الترسبات المتراكمة على حواسه. لابد من هدم تلك الأوهام والهواجس تمهيدا لبناء صرح قوي من الثقة في النفس والجرأة في قول الحق، وتلك هي اللبنة الأولى في بناء الإنسان، وكم عبر قادة هذا البلد عن إيمانهم بأهمية بناء الإنسان قبل أي شيء آخر، ولكي تتحقق آمال القادة، بات على المواطن، في الجامعة وخارجها أن ينفض عن نفسه المخاوف والهواجس، وأن يساهم برأيه وبكل صدق، فما أحوج هذا البلد لأبناء لا يخشون في قول كلمة الحق إلا ضمائرهم.
لقد كان للإنسان الخائف لسبع سنوات خلت، ما يبرر به خوفه، حين كان الوطن يرزح تحت نير الاستعمار الإنجليزيالبغيض، تلك الحقبة السوداء من تاريخ هذه المنطقة، عاشها الإنسان مسلوب الإرادة، يحاصره الخوف من كل جانب، وترتفع الأسوار حوله ليظل سجين جهله وتخلفه.
ومع إن للاستعمار في هذا العصر وجوها مختلفة وأساليب غير مرئية يحاول بها إعادة قبضته، ويتحقق له ذلك أحيانا، كما هو واقع في أجزاء من هذه المنطقة، إلا أن وعي الشعوب يختلف عما كان عليه في الماضي، ولم تتمكن الأسوار القديمة في كثير من الأحيان من مقاومة رياح العلم والمعرفة. جذور الخوف العربي
وكما أن لجذور الخوف امتدادات عميقة في التاريخ، فان لها أيضا امتدادات أفقية على طول الساحة العربية وعرضها، وهكذا تتعدد المصادر، فمن خوف يورثه جيل لجيل، إلى خوف يبثه واقع الشعوب العربية، وما تعانيه تلك الشعوب من تسلط وإرهاب فكري وجسدي تمارسه معها أنظمتها، لا يلبث أن يجد طريقه إلى هذه المنطقة. فكما يتأثر مجتمع بحضارة المجتمعات المجاورة، يأخذ من ثقافتها وفنونها وعلومها، فتصبغ حضارته حتى لتكاد أن تكون انعكاسا لتلك الحضارات، فان بعضا من مشاعر الخوف هنا، هي انعكاس لحضارة الخوف والإرهاب السائدة في معظم البلاد العربية.
ومن الحقائق التي يكشفها علم النفس، وقد تكون غائبة عن الكثير من الناس، تلك الحقيقة القائلة بأن ما يؤذي الإنسان حقا هو شعور الخوف، وليس ما يخاف منه، فالخوف من الشيء أقسى بكثير من الشيء ذاته. إن خوف إدارة المسرح من إغضاب المسئولين، أسوأ وأكثر فداحة من الغضب المتوقع. وخوف طلبة الجامعة من المخابرات أقسى وأشد وقعا عليهم من وجود احدهم في زنزانة سجن، حيث لن يبقى حينها شيء يخافه، بينما وهو خارج السجن، يعيش في زنزانة كبيرة بناها لنفسه، يسكن الخوف معه فيها.
والآن، وبعد ربع قرن من بدء التعليم وانتشار الوعي، يصبح مهينا حقا ذلك الشعور بالخوف، ولا يلام عليه إلا المواطن ذاته. وهذا المواطن، طالبا، تاجرا، موظفا، صياد سمك، مزارعا، امرأة كان أم رجلا، هو مثل ذلك المحكوم بالإعدام، التيار الكهربائي بعيد عنه، ولكن الخوف يجعل أي كرسي شبيها بالكرسي الكهربائي، أن عموده الفقري يتحطم بناء على حكم سابق صدر أيام الاستعمار، انه يحمل «كرسيه» معه أينما ذهب.
شوقي رافع
البيان الإماراتية 27/2/2003