ميراث 20 سنة


في نهاية العام 1980 حط بي الترحال في الشارقة. حينها كنت شاباً غضاً قليل التجربة، لا أملك من متاع الدنيا سوى هلامية في التنظير، وقوالب من نظريات جاهزة، وثقة بالنفس ليست كافية، ومهنة في الصحافة ذات أرضية هشة لا يزيد عمرها على خمس سنوات. في تلك الأيام كانت الصحافة في الإمارات في أوج تألقها. كان هناك سقف معقول لحرية الرأي، وكانت شريحة الفقراء والمعدمين من المواطنين لها صوت بارز في هذه الصحافة التي ازداد تألقها بتبني هموم ومطالب تلك الشريحة.
كانت مجلة “الأزمنة العربية” في الركب الأول لتبني هذا الصوت وإسماعه إلى الجهات ذات الاختصاص. وفي ذلك الزمن كان قرّاء هذه المجلة نوعان: الأول قارئ دؤوب أراد من هذه المجلة أن تكون رافداً لوعيه وصورة غير مشوهة لحقيقة الثراء في الإمارات. والثاني هو صاحب العينين الزائغتين والالتفاتة الخائفة، الذي يرى حتى في ظله عدواً له.
لم أكن حينذاك قارئاً من النوع الأول فحسب، بل كنت –وما أزال– طالباً حين أقرأ جهد الآخرين. ظللت مواظباً على قراءة هذا الجهد المتميز في هذه المجلة، ولم أكتم إعجابي الذي نقلته إلى كل الذين كنت أعرفهم آنذاك، وكانوا قلة. كان مصدر هذا الإعجاب هو “المطبخ” (اعذروني لهذه التسمية! فإنها تقع في صلب ما سأقوله لكم). في الصحف التي تحترم نفسها وتريد لنفسها صيتاً حسن السمعة بين الناس، تضع “مطبخ” التحرير وبريد القراء في أولوية اهتمامها. ففي المطبخ يمر الخبر بين أيدي المحترفين طيلة ساعات، وحين يخرج “مطبوخاً” يكون قد أدى وظيفته بين الناس إيجاباً، وإيجاباً فقط. أما بريد القراء فله اهتمام نخبة من العاملين يرون فيه مرآة لعملهم، ووقوداً يضيء لهم ما يريدون قوله مع إطلالة كل عدد.
وجاء ذلك اليوم الذي التقيت فيه بالمرحوم “غانم غباش”، وكان وقتها يرئس تحرير المجلة. قادني لزيارته أحد الأصدقاء. جمعتنا باحة الدار في حيّ من أحياء دبي. رأيت أمامي رجلاً تضرب السمرة وجهه، تدفعك تعابير وجهه إلى احترامه من الوهلة الأولى. كانت حركاته تنبئ عن حزم وقوة، ولكن ليس كما يفهمها الآخرون، بل كانت مشوبة بتلك المسحة من الطيبة والدعة التي تجعل حتى الأطفال يتكلمون بحضرته كيفما يريدون.
وكعادة أهل جنوب العراق كنت أريد مزيداً من الوقت حتى أُلملِم نفسي وأقضي على خجلي وأقول ما يجب عليّ من قول أمام رجل لم أعرفه إلا منذ لحظات. لم تمضِ إلا بضع دقائق حتى وجدنا أنفسنا ننهمك في حديث خلصت منه إلى حقائق كانت وما تزال أساساً قوياً لمهنة المتاعب التي ما زلت اقترفها إلى يومنا هذا.
قال غانم في وقتها: “ماذا يريد هؤلاء الشعراء الشباب في الإمارات؟ لماذا يتوجب عليهم أن يقلدوا شعراء الغرب في أسوأ ما فيهم؟ هل يتحتم عليهم أن يناموا بين المزابل حتى يكتبوا شعراً مثل ما كتبه رامبو الفرنسي؟ هل عليهم أن يذوقوا طعم الفقر حتى يكتبوا ما يعانونه مثل بقية الشباب في البلدان العربية؟ وهل أصبح النفط عاراً ونكسة لكل المبدعين”؟.
عن هذه الحقيقة تحدث كثيراً، حيث قال: “لسنا بحاجة لممارسة التسكع والدوران في البارات والهيام على أوجهنا بغير وجهة حتى نكتب “الإبداع”. الإبداع الحقيقي هو معرفة الذات أولاً دون التشبه بالآخرين”.
وقال أيضاً: “لم يكن النفط في يوم من الأيام لعنة علينا، ولم يقل أحد أن الترف هو ضد الإبداع، بل لم يقل أحد أن علينا أن نحرق النفط لنرجع إلى سابق حياتنا حتى نكتب عن الفقر والجوع والاضطهاد. ليس البترول سبة، بل هو وسيلة عيش لا أكثر. نحن لا نريد جيلاً ثقافياً مبدعاً مقابل أن نرمي نفطنا في البحر. نحن نكتب عن الجوع لأنه موجود فعلاً، ونكتب عن تلك الشرائح التي ما تزال تكدح لتسد رمقها اليومي، أما الغد فله الله. نحن نكتب، بل ونفضح أولئك الذين يرسمون خرائط المدن في غرفهم المظلمة، ويوزعون على حدودها كل ما طاب لهم من أسماء وألقاب”.
قال أيضاً: “إن أمام شبابنا تجربة فريدة في الإبداع وفي التألق الثقافي، ولكني أخاف عليهم من التخمة المفتعلة التي سيضيعون بها وفيها. في هذه التجربة سيرى هؤلاء الشباب ما لم يره الآخرون في بلدان عربية كثيرة. إنهم يرون ذلك الملك الذي حاك له الخياط بدلة العري”.
وقال أيضاً: “لست متشائماً، ولكني أعلق أهمية على خطوات هذا الجيل، الجيل الذي يعرف كيف وماذا يطبخ لوعيه حتى ينتج ذلك الذي نسميه الإبداع.
في ذلك اليوم عرفت ما معنى أن تورث الكلمات، وما معنى أن يبقى هذا الميراث نصب عيني بعد مرور أكثر من عشرين سنة.
محمد الرديني