غانم غباش

ولد غانم غباش في دبي عام 1946، وقدر له ولجيله بالذات أن يعيش تقلبات تاريخية مهمة في حياة مدينة دبي، هذا الميناء التاريخي المزدهر والمتميز بما للمدن البحرية من تسامح إنساني وامتزاج ثقافي وحضاري.
لقد كان غانم قارئاً نهماً منذ صغره ومتعلماً نهماً من مدرسة الحياة ومن تجارب الآخرين الذين يهفون إلية ويهفو إليهم بمحبة مميزة تركت بصماتها المشتركة في ملحمة العلاقات الإنسانية الخالدة، وليس ذلك بمستغرب إزاء أخلاقياته الراقية وشمائله الجميلة. كان غانم محل الثقة ومصدر تجميع للقلوب بالنسبة للكثيرين من شباب دبي وغيرها من الإمارات وهذا ما أهله بسهولة لتولي منصب رئيس اتحاد كرة القدم في الإمارات وكان بذلك أول رئيس لهذا الاتحاد في بداية السبعينات، بعد نشاط حافل وطويل في الأندية الرياضية وبين أوساط الشباب.
وعلى صعيد حياة العمل، فقد انصرف غانم إلى الحياة العملية وتحمل المسؤولية مذ كان طالباً يافعاً في المدرسة، إذ عمل بوظيفة صغيرة في المدرسة، وفي الصيف والأجـازات كان يعمل لدى أحد المحلات التجارية. ثم اتخذ قرار ترك الدراسة والاتجاه للعمل، فعمل في جمارك دبي مع سلطان بن سليم الله يرحمه. واستمر في ذلك لمدى زمني معين انتهى به إلى قرارالسفر للخارج حيث صقلت مدرسة الحياة الكبرى شخصيته ومواهبه وعاد متسلحاً بخبرة وتجربة وثقافة تؤهله لمواجهة إرهاصات عصر النفط الذي كان يقرع بوابة المنطقة عند عودته إلى الوطن عمل في دائرة العمل والعمال التابعة لحكومة دبي كنائب لمدير دائرة العمل والعمال بدبي، ومع الحقبة الاتحادية تولى منصب الوكيل المساعد لشؤون العمل والعمال في وزارةالعمل والشؤون الاجتماعية حيث كان له الفضل الأكبر في إخراج أول قانون للعمل والعمال في الدولة الاتحادية.
إن مسار حياة غانم غباش وغنى تجربته وتنوعها إضافة إلى سعة إطلاعه وقراءاته المكثفة الشاملة قاده إلى التأمل في حياة شعب الإمارات والأمة العربية، وإلى تحديد خياره الأساسي وهو الانحياز المطلق للشعب وللإنسان العادي ومواجهة كل ما هو ضد هذا الإنسان بكل تجليات هذه المواجهة وفي جميع ميدانيها.
اندفع غانم إلى المجال العام مقتحما كل الأفاق والأبواب المتاحة ومبادراً لخلق آفاق أوسع ولانتزاع مكاسب أكبر، كان له إسهامه في الإرهاصات الثقافية الأولى من بداية السبعينات عبر بعض المجلات التي أدت دوراً بارزاً في التعبير عن جيل له رايته ودوره في مصير الوطن.
وكانت النقلة الكبرى في حياة غانم هي عمله ودوره في إصدار مجلة الأزمنة العربية التي كانت تصدر في الشارقة من مارس العام 1979 إلى أكتوبر 1981. ولقد كرس لها غانم كل وقته وكل ما يملك من إمكانيات ودعم، وسن قلمه رمحاً وامتشق الكلمة حساماً وخاض غمار المعارك مسرجاً الوعي حصاناً فقدم هو ورفاق له الكثير .
كان غانم يوقع مقالاته أحيانا باسمه، وأحياناً باسم آخر مستعار. كما كانت له زاوية في المجلة يوقعا باسم “بلوطي” وهي زاوية استأثرت بشعبية كبيرة وبقراء مواظبين.
كتاباته امتازت بالشجاعة في الطرح والبساطة في اللغة والأسلوب مع الحفاظ على جماليتها، وبالعمق ونفاذ الرؤية في الوقت نفسه.
كمثقف آمن غانم بالدور الفاعل للكلمة والرأي والعمل الجماعي في المجالات المتاحة على الساحة، فكان له دور في ترسيخ عمل وكيان بعض الجمعيات والأندية مثل اتحاد الكتاب والنادي الثقافي الاجتماعي والنادي الأهلي الذي كان عضوا في لجنته العليا.
أما الهم العربي فقد كان له نصيب في عمل غانم العام وتمثل ذلك في تأسيس وتعزيز دور اللجنة الدائمة لمناصرة المقاومة الوطنية في لبنان، حيث اضطلع بدور أساسي على مستوى الوطن العربي في المبادرة إلى تقديم الدعم الشعبي لتلك المقاومة.
غانم غباش شخصية جامعة شاملة غية معطاء وملهمة، وفقدانه يخلف مرارة في حلق كل محب لهذا الوطن ولكل محبللإنسان العربي وقضاياه الكبرى الأساسية.
محزن كثيرا أن غانم لم يكتب كل ما كان يود كتابته، ولم ينجز كل ما كان يفكر فيه وينوي إنجازه، ولكن العزاء انه خلال رحلة حياته القصيرة كان معطاء حد العطاء الأقصى، وكان معلماً ومبشراً بأفكار سامية لم يفصلها قط عن الممارسة، وكان محباً عظيماً ورائعاً للإنسان والوطن والقيم الإنسانية الكبرى والنبيلة، وكان محاربا صلبا وجلدا دون كل ذلك وحتى الرمق الأخير.
من قرأ لغانم يعرف كم أن فكره وقلمه مسكون بالقضايا الأساسية للناس والجماهير العربية هنا وفي كل مكان، وأنه كمثقف ملتزم وقف إلى جوار الإنسان المقهور المسلوبة حريته وكرامته وخبزه.
ومن عرف غانم عن قرب يعلم شغفه بالإنسان، بسعادته وكماله وحريته ويعرف مجالسه كم كان يكرس ساعاته بل كل لحظاته من أجل إسعاد الصغار قبل الكبار.
غانم غباش ليس ظاهرة ذات بعد واحد، هو مجموعة ظواهر مدهشة وذات وجوه وأبعاد متكاملة ومنسجمة ذلك الانسجامالكوني البديع، وأنى قلبت هذه الجوهرة بين يديك سحرك جانب وجذبك وأحببته فيه.
غانم غباش ليس هو السياسي فقط، وليس هو المثقف ذو الفكر الملتزم فقط، وليس هو الشخصية الاجتماعية الشعبية منالدرجة الأولى والجامعة للقلوب فقط، ليس هو المستمتع حتى الثمالة بجمال الحياة فقط، ليس هو المتحدث العذب الآسر، ليس الساخر اللاذع الكلمة، ليس حبيب الصغار ومعشوق الكبار فقط، ليس هو التقليدي المخضرم الموغل في عمق التراث والمتحدث بلغة الأجداد والجدات والمتغني بقصائدهم وأغنياتهم فقط، ليس هو فقط المطلع على أحدث ما انتهت إليه النظريات الفلكية والفلسفية فقط، ليس هو جليس بسطاء الناس وأكثرهم قهراً وتعباً فقط، ليس هو القادر على التخاطب والحوار الإنساني وممارسة الخلاف بطريقة حضارية مع من لا يتهاون أبداً في إعلان اختلافه معهم، انه هذه الأبعاد كلها متكاملةمنسجمة، وهذا هو أحد أسرار هذه الشخصية الغنية الجميلة، لقد انصهرت هذه الأبعاد كلها في بيئة غنية متحركة وطموحة أنجبت ومازالت تنجب بحب وكرم.
هذا هو الرجل باختصار، وهذه محطات من مسيرة حياته بإيجاز، وغانم كله، وحياته، وأعماله، وكتاباته، وعطاءاته ستبقى بعد اليوم ملكا لوطنه، ولمحبيه، ولشعبه العربي من الخليج إلى المحيط.
شبكة الرحال الإماراتية