الاثنين، 17 أكتوبر 2011

وإلا فاليوم نفط وغداً قحط



يروى أن قطاً جائعاً عثر يوماً على مبرد (مسحل) فأخذ يلحسه حتى سال الدم من لسانه، تلذذ القط بطعم الدم وتابع لحس المبرد مستمتعاً حتى نزفت دماؤه كلها… ومات. هذه قصة للأطفال.
قصة أخرى واقعية ومن هنا بالذات. طلاب ثانويون في إحدى المدارس، في حوار معهم، قالوا: طلبنا زيارة جزيرة داس لنتعرف على كيفية استخراج البترول. رد المسؤولون بأن: جزيرة داس بعيدة…
القارئة أمينة تسأل في إحدى رسائلها: يلقوننا أن كل ما حولنا من عذب وجميل هو عطاء وهبات… فكيف يجوز لنا أن ننتقد؟.
ويشكو جامعي أرسلته الإدارة ليتدرب صيفاً في شركة نفط أمريكية في الدولة: وصلتُ إلى الشركة، ولكن الموظف قال: اذهبوا إلى مكان آخر للتدريب، فهذا مكان العمل.
قط يلحس المبرد، طلاب يمنعون من النقد ومن التعرف على مصادر ثروتهم… هذا على مستوى الأفراد… والمنطق نفسه ينسحب على مستوى الدول.
اليابان عملاق اقتصادي هائل، تجاوز في نموه الاقتصادي كل الدول الصناعية الفذة، (ألمانيا الغربية مثلاً)، ما الذي سيحدث لو أن اليابان أفرغت سكانها ودمرت مصانعها ومزارعها مرة ثانية، كما حصل في الحرب العالمية الأخيرة، وجلب إليها الخليجيون ليعمروها، ما الذي سوف يحدث؟ الجواب ليس صعباً أبداً، لا يختلف اثنان أن الإنتاج الصناعي الياباني الهائل سيتوقف لعدم توافر المهارات الصناعية عند الخليجيين، وعدم تعودهم على العمل الشاق، وسيفاجؤون بأن اليابان لا تملك بترولاً ولا معادن ليبيعوها وليستوردوا حاجياتهم كما كانوا يفعلون في الخليج، ولن يستطيعوا استغلال الأرض، فأجسامهم لم تتعود مصارعة الطبيعة القاسية، ناهيك عن الزلازل الكثيرة جداً في اليابان.
وسوف يكتشفون بسرعة، ليس فقط أنهم عاجزون عن تصدير أي منتجات إلى خارج البلاد، وبالتالي فاقدون لميزة التجارة الدولية ومقدرة الاستيراد، بل أنهم حتى عاجزون عن سد حاجاتهم الضرورية كالطعام، وإذا لم تتداركهم وكالة الغوث الدولية بالمساعدات، فربما تدفعهم المجاعة لأكل بعضهم.
وننتقل من الرموز والمقارنات إلى أرض الواقع، حيث تتكشف لنا المأساة التي تعيشها الشعوب الخليجية، فاكتشاف البترول في أرضهم لم يعد نعمة عليهم، بل نقمة وتحول إلى مسحل صادر منهم قدرات العمل والإنتاج التي أورثها لهم الآباء، وحلت محلها متع الطفيلية والاستهلاك والعقم، فأين منهم ذلك الشعب الذي كانت تضرب الشعوب به الأمثال في بذل الجهد والإبداع في العمل وممارسة أشقه، كالغوص في الأعماق السحيقة بحثاً عن اللؤلؤ؟ حين لم يكن هناك أوكسجين أو لباس واق للجسم…
الشعب نفسه الذي كان يقطع آلاف الأميال في البحار والمحيطات ليصل إلى أفريقيا ويؤسس حضارة بكاملها في عدة أطراف منها، ينشر الإسلام ويسعى في الأرض للتجارة والعمل، وهو الشعب ذاته الذي وصل ليس فقط للهند، بل حتى ماليزيا وإندونيسيا… ذلك الشعب نفسه خلف الجيل الراهن، الجيل الرخو الذي يستمتع بموته، وهو الشعب نفسه الذي أنجب مؤلف كتاب ألف ليلة والسندباد الذي اتخذ نموذجاً للمغامر الذي لا يهاب المشاق والأهوال. وهانحن نرى أمامنا أحفاد السندباد شعوباً من الطفيليين والعجزة الكسالى.
ما الذي حدث؟ ومن المسؤول؟.
من قبيل الإغراق في الخيال أن يعتقد الإنسان أن هناك مؤامرة لتحويل الخليجيين إلى كسالى. والجواب يمكن البحث عنه في الوضع الذي برز مع مجيء البترول وحيازة دول الخليج استقلالها من المستعمر، وبالذات في الصيغة السياسية الاقتصادية التي تم تبنيها. ويجب أن يكون واضحاً أن النقمة البترولية ليست متأتية من البترول نفسه، بل من العلاقة السياسية معه، والتي أنتجت ذيولها الاقتصادية الاجتماعية. وإنها لحجة واهية أن يتصور الإنسان أن المجرم هو البترول، لأن هناك شعوباً عديدة نعمت بثروات طبيعية، ولم يكن تأثير هذه الثروات سوى ارتقاء القدرات الإنتاجية لهذه الشعوب، وذلك عكس الحاصل عند شعوب الخليج.
إن الجامعي الراغب في أن يتدرب في شركة نفط يمنع، لأن عمليات التنقيب والاستخراج والنقل والتسويق لنفطنا يجب أن تقوم بها أيد أجنبية، وينبغي أن يستمر الأمر كذلك، حتى أن شركات النفط الوطنية اسماً تجد نفسها مضطرة، بل ملزمة باستعمال ذات الأيدي.
هذا الوضع يشكل في حقيقة الأمر مفارقة حادة للمرحلة الماضية يوم كان اقتصادنا قائماً أساساً على صناعة اللؤلؤ التي كانت تعتمد كلياً على سكان المنطقة، وتنعكس على سلوكهم وحياتهم اليومية. وإنه لمن المفارقات الساخرة والمؤلمة معاً أن نلاحظ أنه قبل اكتشاف النفط، وحين كان اللؤلؤ يشكل بالنسبة لنا عصب الحياة، وعماد اقتصادنا، كان في الأسواق العالمية مجرد مادة ترف وشيء كمالي. وها قد انعكس الوضع اليوم، فبينما يشكل نفط هذه المنطقة عنصراً مؤثراً وفعالاً في اقتصاد العالم واستقراره الاجتماعي، نجده لا يخدم في موطنه الأصلي إلا نزوات الترف ومشاريع التبذير وصناعات التبعية. وإن كان هذا السائل لا يفقد صفته كسلاح فتاك، فهو هنا ليفتك بالإنسان الغواص المنتج ويحيله إلى رقم في جحافل من الديدان القارضة تزدحم بها المؤسسات الحكومية التي ما وجدت إلا لهذا الغرض بالذات.

نشر في مجلة الأزمنة العربية 25/9/1979

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق