هناك شخصان، رحلا عن دنيانا واحداً بعد الآخر، لا ثالث لهما في موقفهما السياسي بين الراحلين في الإمارات. نحن لا نتكلم هنا عن الأحياء (أطال الله أعمارهم). وهذان الشخصان، مارسا العمل السياسي بشكل منظم لم يكن للناس عهد به، بشكل فيه التركيز، وفيه الاستقلالية، وطرحهما لم يكن متأثراً وموجهاً من أحد، وبشكل كنت، أنت وأنا وغيرنا، نعرف ماذا يريد هذان الشخصان، وما هو برنامجهما السياسي والاجتماعي، وما ظاهرهما، وما هو باطنهما.
هذان الشخصان هما تريم عمران، وغانم غباش، وكلاهما تركا أتباعاً ورفاقاً، وهذا شأن القياديين المتميزين الذين يتركون بعد رحيلهم أثراً على رفاقهم. قبل هذين الشخصين السياسيين، لا نستطيع أن نوجه إصبع الإشارة إلى أحد في تاريخ الإمارات، ونقول هذا كان سياسياً وعنده برنامج عمل سياسي طرحه على الناس وعرف به.
الإشارات إلى فلان وعلان من الناس موجودة وكثيرة، ولكنها كلها تدخل في دائرة الميول والعواطف، وتتعارض مع النقد الموضوعي أو البحث الموضوعي. تريم عمران، أول سياسي منظم. أتيحت له فرص الانخراط في السلك السياسي، ومن هناك بدأنا نتعرف إلى اتجاهه ومناهجه السياسية، من خلال ثقافة إعلامية أهلية مستقلة. ولتريم رحمه الله، بحث خاص بطبيعة الحال. ونحن كلنا نتشرف أن نكون رفاق تريم وتلاميذه، وكان غانم غباش تلميذاً لتريم ومتأثراً به، وكان موت غانم بالنسبة لتريم وجعاً مؤلماً عانى منه لفترة طويلة.
أما غانم لوحده، فبالرغم من أنه –بداية- كان من المتعاطفين مع الديماغوجية ذات الصلة بجهات سميت بعضها تحريرية في المنطقة، وكونه أحد الشباب الخالين من التجارب والنضج آنذاك، لكن استعداد عقلية غانم للاستيعاب، أدى إلى ظهور بوادر انقلاب في التفكير السياسي عنده، وخصوصاً بعد أن ذهب إلى الهند في السبعينات، ونما عنده هناك الحس المعرفي الكامن في نفسه، الحس الثقافي السياسي، والتشوق إلى المعرفة. والعجيب أن غانم راح إلى الهند مندوباً عن تجار التهريب، ولكن عقله وإدراكه السليم وطبعه الإنساني النزيه، والثقافة التي نمت عنده في الهند، وانفتاحه على الليبرالية الراسخة في المجتمع الهندي، والديمقراطية التي هي أساس ترابط الشعب الهندي، جعل هذا من غانم بعيداً عن عملية مشبوهة، كالتهريب، واكتساب العيش من أعمال لا تتفق والقيم التي يؤمن بها إنسان مثقف مثله.
وعاد غانم من الهند إلى دبي صفر اليدين، وخالياً من الفلوس، التي كانت هي الهدف من وراء الذهاب إلى الهند، والتي كان يغرق فيها المهربون آنذاك، ولكن غانم عاد، وقد مُلئت كفاه وذهنه ونفسه بالمعرفة، وانفتح إدراكه على الثقافة، وتعلم في الهند الإنجليزية فأجادها، وتعلم الأوردية فأجادها كأحد أبنائها، وألم بالفارسية التي هي قريبة من الأوردية الهندية, وقرأ غانم لطاغور، وقرأ فلسفة غاندي، وقرأ غانم رسائل نهرو إلى ابنته انديرا في السجن لمحات من تاريخ العالم، وقرأ لأبي الكلام آزاد، ومحمد علي، وشوكت علي، وذاكر حسين، وغيرهم من المناضلين الهنود من أجل استقلال الهند وإقامة المجتمع الديمقراطي والتعددية الانسجامية بين النحل والطوائف وقرأ للاشتراكيين الهنود وتأثر بمرامهم.
لو تحدثت عن أبي مروان، ومراحل حياته بعد رجوعه من الهند وتوليه إدراة العمال، والحادثة التي تعرض لها، وحياته بعد ذلك، لأخذ مني الحديث كل مأخذ، ولاقتصر الحديث عليّ وحدي. ولكن تكوين غانم السياسي الناضج، وتكوين غانم المفكر السياسي والاجتماعي، وإضافات غانم، وعطاء غانم، وشخصية غانم المبهرة، بدأت تظهر وتترعرع، بظهور “الأزمنة العربية” المجلة الشهيرة التي عرفناها جميعاً. وهنا عرفنا غانم بالإضافة إلى صفاته الشخصية الكبيرة، عرفناه كاتباً وصحافياً، وحامل قلم لا تلين له عزيمة، يخوض المعارك الكبيرة بقلمه من دون ملل ومن دون وجل، ومن دون تردد في قول ما يعتقده أنه الصحيح. ومن يقرأ منا ما كتبه غانم في “الأزمنة العربية”، من مقالات سياسية واجتماعية، وقد جمعت معظمها في كتابينأحدهما كتاب “في السياسة والحياة”، والآخر “البلوطي”، وهو باللهجة العامية. يحس أنه أمام كاتب متمرس ومتمرن، يغوص في كنه الأمور بعقلية نيرة, وبلغة سهلة وبسيطة، ويضعها في أفواه العامة ويجعلهم يعون ما يرونه وما يقرؤونه وما يسمعونه، من دون لبس أو غموض. وعندي أن غانم لو عاش حتى أيامنا هذه لكانت الإمارات عندها كاتب سياسي مفكر كبير تضعه في الصفوف الأولى بين الكتاب الكبار من العرب المعاصرين.
(نص الكلمة التي ألقاها عبدالغفار حسين في الذكرى الخامسة عشرة لرحيل غانم غباش في مؤسسسة العويس الثقافيةبدبي في 2 مارس 2004).
عبدالغفار حسين