استذكره أصدقاؤه وأهله


هناك نخبة من الرجال الوطنيين الذين تعرفهم دولة الإمارات وشعبها وتظل تذكرهم حتى بعد مرور سنوات على غيابهم، إنهم من جيل المؤسسين الذين بنوا اللبنات الأولى لدولة الاتحاد، وكانوا من دعاة الوحدة التي بدأت بفكرة الوحدة “التُساعية” قبل أن تتحقق في الاتحاد السباعي. من هؤلاء الراحلين نتذكر تريم عمران وحمودة بن علي، ومن الجيل اللاحق يبرز اسم وعمل الراحل غانم عبيد غباش. هؤلاء الرجال الذين غرسوا وبنوا وسهروا وكان العطاء من أجل وطن أفضل… فهم قدموا إسهامات كبيرة ومهمة في بناء حلم الوطن الواحد.

وفي إطار الاحتفاء بواحد من هؤلاء الراحلين، أحيت مؤسسة سلطان بن علي العويس أمس الأول الذكرى الـ15 لرحيل غانم غباش، الكاتب والسياسي الذي كان مثقفاً بارزاً وكاتباً وناشراً ملتزماً، بدأ رحلته مع الكلمة في مجلة “الأهلي” قبل قيام الاتحاد، وبعدها مجلة “المجمع الثقافي“، ثم صحيفة “الأزمنة العربية”. وقد رحل عن عالمنا يوم الرابع من مارس/ آذار، 1989 في أحد مستشفيات لندن بعد صراع مع المرض، عن عمر ناهز ثلاثة وأربعين عاماً، فهو من مواليد دبي عام 1946. وذلك بحضور عدد من رجال الفكر والأدب والإعلام يتقدمهم د. عبد الله عمران، وقد شارك في الاحتفالية د.عبدالخالق عبدالله، وعبدالغفار حسين، ود.محمد غباش، ود.رفيعة غباش، ود.موزة غباش، وبعض المهتمين من الحضور.

إن الدور الذي جسده الراحل تريم عمران تريم أكبر من أن يحصر في رسالة دار الخليج، فهو تجاوز الدور المحلي والخليجي إلى الدور العربي، وأضاف إلى إسهاماته المحلية المتمثلة في المناداة والعمل لإقامة الاتحاد “السباعي”، أضاف عملاً عربياً مميزاً فكان رمزاً من رموز العمل القومي والوحدوي العربي. ومع رعيل تريم الرائد ارتبط مسار حياة حمودة بن علي بمسار بناء الدولة وطموحاتها وكان صورة للعطاء والبذل يجدر التوقف عندها وقوفاً مطولاً ومعمقاً.

أما غانم غباش فهو كما يعرف كثر من أصدقائه ومعارفه على صعيد الحياة والعمل انصرف إلى الحياة العملية وتحملالمسؤولية مذ كان طالباً يافعاً في المدرسة، إذ عمل بوظيفة صغيرة في المدرسة، وفي الصيف والإجازات كان يعمل لدى أحد المحلات التجارية. ثم اتخذ قرار ترك الدراسة والاتجاه للعمل، فعمل في جمارك دبي. واستمر في ذلك لمدى زمني معين انتهى به إلى قرار السفر للخارج حيث صقلت مدرسة الحياة الكبرى شخصيته ومواهبه وعاد متسلحاً بخبرة وتجربة وثقافة تؤهله لمواجهة إرهاصات عصر النفط الذي كان يقرع بوابة المنطقة. وعند عودته إلى الوطن عمل في دائرة العمل والعمال التابعة لحكومة دبي كنائب لمدير دائرة العمل والعمال بدبي، ومع الحقبة الاتحادية تولى منصب الوكيل المساعد لشؤون العملوالعمال في وزارة العمل والشؤون الاجتماعية حيث كان له الفضل الأكبر في إخراج أول قانون للعمل والعمال في الدولة الاتحادية.

إن مسار حياة غانم غباش وغنى تجربته وتنوعها إضافة إلى سعة اطلاعه وقراءاته المكثفة الشاملة قادته إلى التأمل في حياة شعب الإمارات والأمة العربية، وإلى تحديد خياره الأساسي وهو الانحياز المطلق للشعب وللإنسان العادي ومواجهة كل ما هو ضد هذا الإنسان بكل تجليات هذه المواجهة وفي جميع ميادينها.

اندفع غانم إلى المجال العام مقتحما كل الآفاق والأبواب المتاحة ومبادراً لخلق آفاق أوسع ولانتزاع مكاسب أكبر، كان له إسهامه في الإرهاصات الثقافية الأولى من بداية السبعينات عبر بعض المجلات التي أدت دوراً بارزاً في التعبير عن جيل له رايته ودوره في مصير الوطن.

في الكلمة الارتجالية التي ألقاها د.عبدالخالق عبدالله، برز غانم غباش الذي ينظر إليه بوصفه “مشروعاً وطنياً توقف برحيله ولم يكتمل، ويحتاج إلى من يعيد تأسيسه وتجديده، لذلك فالحزن على غانم هو حزن على مشروع مجهض، كما كان الحزن على تريم عمران”، واستذكر د.عبدالخالق لحظة استقبال جثمان الفقيد في مطار دبي قائلاً: إن الحزن الذي شعرت به آنذاك كان الأكبر في حياتي، لأنني كلما مر ذكر غانم أتذكر ذلك المشروع المجهض.

واسترجع فترة تعارفه مع غانم غباش فقال: “تعرفت إليه حين كان بصحبة قاسم السلطاني في المجمع الثقافي أو في دائرة العمل، فقد كانا رفيقين متلازمين، وفي مخيلتي دائما الاثنان معا”. واستذكر لقاءاته معه في بيت غانم أو في المستشفى أو المزرعة، حيث كان الحاضر هو الوطن والهم الوطني وهم الإنسان العادي، ومن هنا كنت أعتقد أنني لست مجرد صديق لغانم بل جزء من مشروع، وتعرفت إلى ملامح من مشروع غانم الوطني في رحلتين، الأولى كانت إلى طهران بعد مرور سنة على الثورة الإيرانية وخلع الشاه، وقد كنا منبهرين بالثورة ليس من أجل الثورة بل لأنها خلعت الشاه وكانت ضد هيمنة أمريكا، وقد كان غانم متجليا كما يتجلى عادة في السفر. ثم في رحلة أخرى إلى واشنطن حيث تعرفت إلى غانم أكثر وعرفت أنه ليس مجرد شخص أو مسؤول بل مشروع وبرنامج. صورة غانم على صعيد شخصي صورة جاذبة ودودة حاضنة. كان غير طبيعي في قدرته على جذب الناس واحتضانهم، وجمع من حوله من لا يجتمعون أصلاً، كان مدرسة في نسج العلاقات وربط الناس ببعضهم. عدد كبير من الناس في مجلسه. وكم نحن نفتقد أمثاله ممن بنوا جسورا بين أصحاب المشروع الذي بدأه غانم. فبعده لم يعد هناك من يستطيع صهر الجميع ضمن مشروع وبرنامج. وبعد 15 سنة على رحيله أسال: أين هو مشروعنا الوطني؟ أين حملة هذا المشروع؟ وغانم كان رجل المستقبل، فمن يحدد لنا إلى أين نسير؟وختم د.عبدالخالق بالقول: “إن الوفاء لغانم وتريم وأمثالهما هو في التفكير بأجندة وطنية للنهوض بالعمل الوطني ولنفهم ما يجري من حولنا وما سيأتي به المستقبل”.

وكان د.محمد غباش تحدث في بداية الاحتفالية عن شقيقه الراحل راسماً ملامح من صورته الشخصية وكاشفاً عن موهبتهالإبداعية التي تفجرت بعد حادثة عام 1975 التي أقعدت غانم في كرسي المرض، ومما قال د.غباش: “نحن اليوم لم نأتِ هنا لنحزن، بل لنحتفي بالراحل ونستحضر ذكراه الطيبة، وقد ترك لنا الراحل معاني عميقة تضيء حياتنا”. وأضاف: “غانم غباش يكمل الليلة خمسة عشر عاماً من الرحيل، وبرحيله ترك فراغاً كبيراً لدى محبيه وزملائه وأصدقائه”.

وتحدث د.غباش عن معنى تحقيق الذات كما كان يفهمه لدى الراحل، فقال: “حين وقع حادث 1975 لغانم اعتقدنا جميعاً أن غانم سيبقى قعيد الكرسي ويفقد الحركة، لكن غانم سرعان ما حول ضعفه قوةً خلال فترة وجيزة. ففي السنوات التالية تفجرت لديه طاقات خبيئة جعلته أقوى مما كان عليه قبل الحادث، فقد تمكن بالعمل والجهد والصبر من صنع نفسه ككاتب وصحافي ومثقف ترك بصماته على جيل من المثقفين في السبعينات والثمانينات، لكن المعجزة هي في كيف استطاع غانم الذي لم يكن كاتباً قبل الحادث، أن يجعل من نفسه كاتباً بعد الحادث؟ هذا هو السؤال الذي دفعني إلى التأمل والتفكر لسنوات طويلة. إذ هل يمكن للموهبة أن تظل خبيئة طوال سنوات كثيرة، ولم أستطع أن أجد إجابة شافية في ما يخص شخصية الفقيد، لكنني أستطيع القول إن لديه الكثير من الصفات التي جعلته قادراً على أن يتعامل مع هذه الموهبة الخبيئة”.

وقدم د.غباش توضيحاً لجوانب من شخصية شقيقه على صعيد الإبداع، فقال: “في الدرجة الأولى من عوامل تصعيد موهبة غانم الكتابية، كان مستمعا من الطراز الأول، وأنا لم أرَ في حياتي من هو أكثر منه قدرة على الاستماع. كان يصغي بعمق ولا يستعجل أحدا لإنهاء حديثه. هذه الصفة جعلته قادراً على تحسس نبض البيئة التي كان يقترب منها ويعايشها. فقد كانت علاقاته واسعة، وكان مجلسه يضم الوزراء وصائدي الأسماك الذين يتحدثون إليه عن مواسمهم وهمومهم. وما بين المستويين من البشر كانت هناك أنماط ومستويات متباينة من الشرائح الاجتماعية. والكل كان مقربا من غانم لأنه كان يمنح الجميع محبته واهتمامه ويلبي للجميع حاجاته ومطالبه”. وختم د.غباش حديثه: “كان غانم يعتبر نفسه تلميذاً أبدياً لكل من يستمع إليه من الأصدقاء”.

د.رفيعة غباش تحدثت عن جوانب القدرة على الفرح والبهجة في شخصية شقيقها الراحل، وقالت: “إنه كان في ظروفه كلها قادراً على التواصل والعطاء، حتى في أقسى الظروف، هذا ما فقدناه بغياب غانم على المستوى الإنساني. وعلى المستوى الفكري كان غانم صاحب مواقف معروفة لا تلين، والحاضرون في هذه الجلسة يعرفونه جيداً وهم جميعاً جاؤوا ليحيوا ذكراه لحبهم له، وليس بينهم من جاء مجاملة. وإحياء ذكراه اليوم يذكرنا براحل آخر عزيز علينا هو تريم عمران الذي كان غانم قريباً جداً منه”. وأضافت د.رفيعة: “هناك رغبة كبيرة للتواصل مع غانم المفكر، وقد أسعدني أن يربط الأستاذ عبد الغفار حسين بين فكر غانم وأستاذية تريم عمران”، وأهم ما يدعونا للتواصل هو مشروع الشرق الأوسط الذي أعتبره كارثة حقيقية كبرى تلم بنا”، وتساءلت: “ما الذي كان سيكتبه غانم عن هذا المشروع لو أنه ما يزال حياً؟ وكيف يمكننا مواجهة هذا الخطر القادم ونحن لا نملك أدوات المواجهة؟ فالآتي يتطلب رجالات من وزنه ووزن تريم عمران”. واعتبرت د. رفيعة أن نقطة التحول في حياة شقيقها غانم كانت لدى لقائه بشقيقه د. محمد غباش الذي، كان انتقاله للاهتمام بقضايا العمال بتأثير من د. محمد، وقد كان هذا الاهتمام جديدا على البلاد أيضاً.

أما د.موزة غباش الشقيقة الثانية للمحتفى به فقد شكرت “مؤسسة العويس”، ووقفت على مجموعة الانهيارات الوطنيةوالقومية التي كان غانم يهتم بها، وقالت: “إن الحاجة إلى غانم تزداد في ظل الانهيارات المتتالية التي يعيشها العالم العربي”. وقالت: “إن هناك قفزات وإنجازات اقتصادية مهمة في الدولة، لكن هذا ليس الجانب الإنساني في التنمية”. وأشارت إلى ما يجري من مناقشات حول انهيار الجامعة العربية، واعتبرت ذلك مؤشراً على انهيارات أخرى على المستوى القطري العربي. وإن التقدم الذي يتم هو إلى الوراء وليس إلى الأمام.

وفي الختام تحدث عدد من الحاضرين، بعضهم ممن عرف الراحل عن قرب، وبعضهم ممن تابعه على نحو ما. فقد تحدثرأفت السويركي مستعيداً علاقة قامت في شقته مع غانم غباش الإنسان المرتبطة صورته بالكرسي، في تلك الشقة القريبة من مبنى صحيفة “الأزمنة العربية” التي كان يصدرها الراحل. كما تحدث الصحافي غازي أبو دقة وطالب بإعادة إصدار هذه الصحيفة المتميزة. وختمت الأمسية الاحتفالية بكلمة من كل من أسامة إبراهيم ومعتصم الحكيم.

مـــن أقــوالـــه:

*المستقبل في نظر الإنسان العربي غامض معتم يدعو للتشاؤم لدرجة أن الواقع بمساوئه قد يبدو أسلم لأننا نعرفه ونتشبث به.
*نجحت الأنظمة العربية في ترويض شعوبها وضمان طاعتهم واستسلامهم، مستعملة شتى الوسائل، ومن هذه الوسائلالعصا والجزرة والتمزيق الطائفي والمذهبي والعشائري وتزييف الوعي… الخ.
*تقول لنا الثقافة المسيطرة إن الغرب هو نموذج التطور الذي علينا أن ننبهر به ونعتبره مثلنا الأعلى… نستهلك منتجاته، نعتبره صديقاً وشريكاً ولا يمكن أن نتطور إلا بالتعاون معه.
*تتلقى الأغلبية العربية ذات المصلحة في التغيير المعرفة والوعي المضاد لمصالحها من مصادر الفئة المسيطرة، هذه المعرفة وذاك الوعي يسببان للمتلقي رؤية مشوشة تفقده طريق الخلاص وتخلط عليه الأوراق.
*الإنسان الذي يتحرر من براثن ثقافة الفئات المسيطرة يستطيع بسهولة أن يكتشف الحقيقة، ويرى أن أزمات الفئة المهيمنة مصدرها تبعية هذه الفئة للغرب الإمبريالي وارتهانها له، هذه التبعية وذلك الارتهان اللذان يعودان إلى تاريخ التغلغل الاستعماري في الوطن العربي.
*على الإنسان العربي الذي نعني أن يحرر فكره من فكر الفئات المسيطرة أن يوجد فكره الأصيل الخاص الذي ينطلق من موقع الفئات ذات المصلحة في التغيير، هذا الفكر لا يمكن أن يكتسب أصالته وخصوصيته إلا من معرفته لواقعه الاجتماعي وتناقضاته، وصولاً إلى الاصطفاف في حركة التحرر الوطني العربية لأن الفكر العربي لا يمكن أن يتحرر من قوانين علاقة التبعية الإمبريالية بمعزل عن حركة التحرر.
*موضوع استقلال القرار الفلسطيني كبير الأهمية، ولا بد من احترام إرادة الشعب الفلسطيني في أن يكون حراً في تقرير مصيره وفي صياغة الخط السياسي الذي يوصله إلى حقوقه.
*قبل التصدي لمهمة التعرف إلى نمط أو أنماط الاقتصاد السائدة حالياً في دولة الإمارات لا بد من التعرف ولو باختصار إلى حقيقة العلاقات الاقتصادية التي كانت سائدة منذ القدم وحتى ما قبل استخراج النفط.يمكن القول إن البنية الاقتصادية لدولة الإمارات تتكون من مختلف أنماط الإنتاج التي عرفها المجتمع البشري (ما عدا الاشتراكي)، فيوجد النمط البدائي وشبه الإقطاعي والبضاعي الصغير والطفيلي التجاري وبدايات الرأسمالي. فماذا يمكن أن تفرز هذه الأنماط مجتمعة من علاقات اجتماعية؟.

صحيفة الخليج الإماراتية 04- 03- 2004