عفواً أبا مروان

من الصعوبة بمكان أن يتحمل الإنسان الاستمرار في الاستماع إلى الحديث حول شخصية عرفها عن قرب، وازدادت العلاقةمعها على مر السنين، ويعرف تفاصيل حياة ذلك الشخص سواء كانت ذات علاقة بالشأن العام، أو حياته الخاصة. وهي ليست مجالاً للحديث حيث أنها من الخصوصيات التي يجب أن تحترم. ربما تختلط الأوراق بعد مرور خمسة عشر عاماً على رحيل ذلك الإنسان، بعد معاناة من مرض السرطان، إلا أن المرض لم يكن بأي حال من الأحوال عائقاً أمام إصراره على الحياة، والاستمرار في العطاء. لقد ظل سنداً وعطاءً مستمراً رغم كل الظروف. كان معلماً من الدرجة الأولى، علمته الحياة أن يكون صديقاً للجميع، حتى أولئك الذين يختلف معهم حول كثير من القضايا.

كانت علاقاته ممتدة أفقياً وعمودياً، يلتقي في مجلسه -وخاصة يوم الخميس- أفراداً من مختلف الجنسيات والاتجاهات، يجمع بينهم حب ذلك الإنسان الرائع، والذي يفكر براحة الجميع إلا نفسه. يتحرك بحرية مطلقة على رغم المقعد الذي لازمه منذ ذلك الحادث الأليم في منتصف السبعينيات من القرن الماضي.

كان قمة في حياته العامة، لم يكن يتصرف كما تقدم النخبة في أيامه، كان يعلم أن الإنسان موقف، وأن التاريخ لا يرحم أولئك الذين يدعون شيئاً، ويمارسون عكس ذلك. كان يسعى لخلق جيل من المواطنين ذوي الاختصاصات وذوي الخبرة. لقد ساهم بطريق مباشر أو غير مباشر في خلق جيل الثمانينيات من القرن الماضي، فغالبية من تعرفهم من كتاب وأدباء وأكاديميين كان له دور في صقلهم جميعاً إلا من كان ينتمي إلى تيارات ترفض الآخر وترفض التطور وتعتبر نفسها وصية على سلوكالناس وأفكارهم وانتماءاتهم. وقد أظهر التاريخ هشاشة هذا الفكر وخطورته على المستقبل الواعد لجيل الشباب. وما نراه اليوم من ويلات تحيق بنا هو واحد من نتاج هذه الفئة التي كانت ترى في أفكار غانم خطراً عليها لأنها تمثل العقلانية والفكر القابل للتطور لمجاراة العصر الراهن. لقد كانت” الأزمنة العربية” مدرسة صحفية مختلفة عن سواها من المجلات أو الصحف في ذلك الوقت المبكر من حياة تجربتنا الاتحادية، ولعل الأيام الأخيرة كشفت أن المشروع الوطني يعد من خلال العدد الذي يعمل في المؤسسة الصحفية من المواطنين، وشتان ما بين الادعاء والأرقام التي تكشف الحقيقة.

لقد كان أبو مروان امتداداً لحركة تهتم بالإنسان على هذه الأرض. هذه الحركة المهتمة بالإنسان من دون مزايدات كلامية أو ركوب الموجة، هي التي خلقت جيلاً جديداً يؤمن بدور المواطن الذي كان يرى أنه المهم في المعادلة، وليس أولئك الذين يركبون كل الموجات ولديهم الاستعداد لتزوير التاريخ الاجتماعي. كان أبو مروان يرى أن هؤلاء إما أنهم لم يدرسوا التاريخ بشكل جيد، أو أنهم من النخبة الفاسدة، والتي تركب القطار الأسرع للوصول إلى أهدافهم الذاتية.

كثيرون يدّعون علاقتهم الحميمة بك يا أبا مروان، إلا أن من كانت لهم علاقة حقيقية وإنسانية بك لم يبادروا بعد بالحديث عنها. كنت أتمنى أن يتحدث أبو خالد عن علاقته بك والممتدة لعمر طويل، أو أشخاص آخرين ما يزالون يكنون لك الاحترام والتقدير. ما زلت أتذكر تلك العلاقة العميقة بينك وبين الكثير من أبناء الإمارات أو العرب أو الأجانب، ممن آثروا السكوت على الكلام عنك في ذكرى رحيلك عن هذا العالم قبل خمسة عشر عاماً.

كنت أتمنى أن يكون يوم الاحتفال بذكراك في مؤسسة سلطان بن علي العويس الثقافية يوماً للفرح، وأن يكون الجميع فخورين بإحياء ذكرى إنسان لم يرحل بل هو باقٍ بيننا، وأن مشروعه لم ينتهِ حيث إن هنالك مَنْ ما يزال يعتقد أن البقاء للوطن والإنسان. وكم تمنيت أن أسمع شهادة أبي حسين أو أبي صلاح أو غيرهما ممن كانوا أصدقاءك منذ البدايات الأولى، ولا أنسى في هذا المقام أبا محمد، ذلك الإنسان الذي أحبك، وظل إنساناً في علاقاته، متمسكاً بما تعلمه منك. كما ظل أبونبيل مخلصاً لعلاقته بصديق عمره، إلا أن الأوراق ربما اختلطت عليه نتيجة لعوامل كثيرة.

أيها الصديق العزيز، مما لا شك فيه أن إحياء ذكرى رحيلك عن هذا العالم، يجب الاحتفال به سنوياً، فأنت المعلم الذي لا معلم له إلا الحياة وسيرة الأجداد والفكر الذي يخدم الإنسان. وستظل ذكراك جزءاً من ذكرى هذا الوطن، فأنت من جيل الرواد الأوائل. وحان الوقت لأن تُسمى مدرسة أو شارع باسم غانم عبيد غباش. أليس من حقك أن يُقدّر الإنسان الذي وضع أول قانون للعمل والعمال في مرحلة ما قبل الاتحاد، ومن كان يدعو للإصلاح والتطوير قبل أولئك جميعاً، ومن كان جزءاً منحركة التنوير في المجتمع؟.

أبا مروان عفواً إن تمت الإساءة إليك ممن لا يستطيعون أن يرقوا إلى ما وصلت إليه، فأنت إحدى قمم جبال الإمارات.

د‌. محمد عبد الله المطوع

صحيفة الاتحاد ـ أبو ظبي ـ11 مارس 2004